دروس التاريخ .. كيف يتجنب الاقتصاد الناجح الانهيار خلال الأزمات العاصفة؟
في صيف عام 1997، هبت عاصفة اقتصادية مدمرة.. عملات تنهار، وبورصات تتهاوى، واقتصادات مفعمة بالحيوية تسقط واحدًا تلو الآخر، في مشهد ينذر بأزمة واسعة النطاق وسلسلة متتالية من الهزات العالمية المؤلمة.

في هذه الأثناء، كانت تايلاند أول الضحايا، وكوريا الجنوبية على حافة الهاوية، أما إندونيسيا فكانت على موعد مع الانهيار التام، لكن وسط الفوضى، كانت هناك جزيرة صغيرة في بحر الصين الجنوبي تتشبث بهدوئها.
لم تكن بمنأى عن التبعات، لكن اقتصادها لم ينهَر، وأسواقها لم تصرخ، وعملتها لم تذعن؛ الجزيرة هي “تايوان”، التي لطالما وُصفت بالهامشية أمام جيرانها العمالقة.
لكن هذه الجزيرة الصغيرة كانت تملك سرًّا: احتياطات ضخمة، انضباط مالي، بنوك حذرة، ومستثمرون يؤمنون بأن “الذعر هو العدو الأول”.
معجزة مبكرة
– تبدأ قصة تايوان قبل التسعينيات بكثير، فبعدما خضعت للحكم الاستعماري الياباني بين عامي 1895 و1945، أصبحت مقرًا للحزب القومي “الكومينتانغ”، الذي تمركز بها عقب هزيمته على يد الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية، واصطحب معه الكوادر الإدارية والعسكرية والتعليمية من البر الرئيسي، بالإضافة إلى الاحتياطات الذهبية الأجنبية.
– بعد ذلك، عمل القوميون على فصل المؤسسات عن بكين، وأطلقوا سلسلة من الإصلاحات الهيكلية، ويمكن القول إن “المعجزة الاقتصادية” للجزيرة (يعيش بها الآن 23 مليون نسمة) انطلقت مع إعلان الإصلاح الزراعي وتبني السياسة الصناعية في الخمسينيات.
– أيضًا ساهمت المساعدات الأمريكية والبيئة السياسية المستقرة في إعادة بناء الاقتصاد، ومن أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، تحولت تايوان من سياسة استبدال الواردات إلى الترويج المكثف للصادرات (مثل إنشاء مناطق معالجة الصادرات).

– بلغ متوسط النمو السنوي للاقتصاد الحقيقي 10% خلال فترة الستينيات والسبعينيات، وبحلول أوائل التسعينيات، أصبحت تايوان أحد “النمور الآسيوية الأربعة” ومُصدّرًا رائدًا للإلكترونيات والحواسيب، حيث بلغت صادراتها حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
– حافظت تايوان على فوائض مستمرة في الحساب الجاري، وفي منتصف عام 1997، بلغت احتياطياتها النقدية نحو 90 مليار دولار أمريكي (ثالث أكبر احتياطي عالميًا).. لكن بحلول ذلك الوقت، كان الخطر يطرق أبواب المنطقة.
التهديد الأخطر منذ الحرب
– بعد احتلال ياباني وحرب أهلية، ربما ما حدث في تسعينيات القرن الماضي كان أخطر منحنى تعبره تايوان الحديثة (التي تزعم استقلالها عن الصين الآن، في حين تؤكد بكين سيادتها على الجزيرة).
– بدأت أزمة 1997 خارج حدود تايوان والصين، عندما انهارت قيمة العملة التايلاندية (يوليو من نفس العام)، مدفوعة باختلالات مزمنة وضعف الهياكل المالية في العديد من الاقتصادات الآسيوية: ارتفاع الديون الخارجية قصيرة الأجل، وأسعار صرف مبالغ فيها، وفقاعات أصول، وضعف تنظيم البنوك.
– بمجرد انخفاض قيمة البات التايلاندي، تغيرت معنويات المستثمرين بشكل حاد في جميع أنحاء المنطقة، وتراجعت أسواق الأسهم (انخفض مؤشر بورصة تايلاند بنسبة 75% تقريبًا عند أدنى مستوى له).
– الأخطر أن الأزمة انتشرت كعدوى فيروسية بسبب ذعر المستثمرين، وكانت الدول التي تستخدم نظام عملة ثابتة أو شبه ثابتة (إندونيسيا، ماليزيا، الفلبين، كوريا، تايلاند) معرضة للخطر بشكل خاص، أما سنغافورة وهونج كونج وتايوان (ذات الأنظمة الأكثر مرونة والميزانيات العمومية الأقوى) تأثرت “بدرجة أقل”.
– في حالة تايوان، لم تكن هناك اختلالات واضحة قبل الأزمة تُنذر بمشكلة، وكانت بنوكها تتمتع برأس مال جيد، وديونها الخارجية منخفضة للغاية.
– لكن بحلول أواخر عام 1997، كانت جميع أسواق الأسهم والعملات الآسيوية الرئيسية تتراجع، والقناة الرئيسية لانتقال العدوى هي تصورات المستثمرين: فبمجرد انهيار الثقة في عملة دولة ما، هربت الأموال الساخنة من جميع أنحاء المنطقة، حتى من اقتصادات كانت سليمة سابقًا.

ما يميز تجربة تايوان؟
– الأثر المباشر لأزمة إقليمية بهذا الحجم، كان تباطؤ اقتصاد تايوان (لكنه تجنب الانهيار الكامل) وانخفاض الصادرات، خاصةً إلى الدول المجاورة، لكن على عكس جيرانها، لم تحتج تايوان إلى خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
– لم تكن عملتها مرتبطة بالدولار الأمريكي وتتمتع بالمرونة، حيث انخفض الدولار التايواني الجديد بنسبة 19% من منتصف عام 1997 إلى أوائل عام 1998، لكن يقارن ذلك بخسائر عملات ماليزيا وتايلاند وكوريا وإندونيسيا التي تراوحت بين 42% و70%.
– ظلت سوق الأسهم التايوانية مستقرة نسبيًا، حيث ارتفعت بنسبة 18% تقريبًا بالعملة المحلية خلال عام 1997 (لكنها انخفضت بشكل طفيف وفقًا لقيمتها بالدولار الأمريكي)، في حين انهارت الأسهم في كوريا الجنوبية وإندونيسيا وتايلاند بنسب تراوحت بين 30% و55% في ذلك العام.
– رغم تمتع تايوان باحتياطي نقدي قوي ونظام مالي متماسك وفوائض تجارية كبيرة، اتخذت السلطات خطوات سريعة ومُركزة لمنع انزلاق البلاد إلى دوامة انكماشية، حيث دافع البنك المركزي في البداية عن سعر الصرف، وأنفق 7 مليارات دولار أمريكي خلال أشهر قليلة.
– بيد أنه تحول إلى نظام التعويم المُدار بحلول منتصف أكتوبر، فانخفضت العملة المحلية من مستوى 28.6 دولار تايواني للدولار الأمريكي الواحد إلى 35 دولارًا تايوانيًا بحلول أوائل عام 1998، وساهمت هذه الخطوة في الحفاظ على القدرة التنافسية دون إثارة الذعر.
– أيضًا حافظت الحكومة على الانضباط المالي، ففي عام 1998، لم ينمُ الإنفاق الحكومي سوى بنسبة 0.17%، وظل العجز المالي في حده الأدنى حتى مع تباطؤ النمو، وحافظ هذا الموقف المالي المتشدد على الثقة في استقرار الاقتصاد الكلي.
– في الوقت نفسه، شكّلت احتياطيات تايوان الكبيرة من العملات الأجنبية حائط صد منيع، حيث تجاوزت احتياطياتها حجم ديونها الخارجية ثلاث مرات، مما أتاح للسلطات مجالًا لامتصاص الصدمات، ولم تكن بحاجة إلى الاقتراض المكثف أو الشروط التي واجهتها الدول الأخرى.

ماذا حل بالأسواق وسط العاصفة؟
– إدراكًا منها أن الأسواق كانت مدفوعةً بمشاعر المستثمرين الأفراد، لجأت السلطات إلى التدخل المباشر، معتمدة على “صندوق الاستقرار السيادي” المدعوم بالأموال العامة لشراء الأسهم خلال فترات الانهيار.
– في فترة الأزمة، استخدم المسؤولون هذا الصندوق لشراء الأسهم وبثّ الثقة، في خطوة تعكس هيكل السوق الفريد في تايوان، حيث يهيمن صغار المستثمرين الأفراد على البورصة (بنسبة 80-90% تقريبًا).
– ركّزت تايوان أثناء الأزمة على تهدئة الأسواق عبر قيود تداول مؤقتة، مثل حظر البيع على المكشوف مؤقتًا، لكن ساهمت أيضًا الثقافة الاجتماعية والتجارية في تايوان في تحقيق الاستقرار، حيث تنتشر الشركات العائلية الصغيرة والمتوسطة، ما ساعد في الحد من موجات البيع.
– غالبًا ما تتبنى هذه الشركات رؤى طويلة الأجل، وخلال الأزمات، يميل الملاك إلى الاحتفاظ بالأسهم بدلاً من التخلص منها بدافع الخوف، وبالتالي كانت استجابة السلطات دقيقة ومركّزة على السيولة بدلاً من عمليات الإنقاذ الواسعة.
تايوان الحديثة
– يقف الاقتصاد التايواني اليوم على عتبة نادي التريليون دولار (من المتوقع أن يدخله خلال العامين المقبلين) لكن ذلك لم يكن وليد الصدفة أبدًا، فقد قفز حجمه من 42 مليار دولار إلى 330 مليارًا تقريبًا بين عامي 1980 و2000، قبل أن يواصل مسيرة النمو وصولًا إلى 900 مليار دولار اليوم.
– بعد الأزمة اتجهت تايوان إلى إعادة تشكيل اقتصادها بالتركيز على التكنولوجيا المتقدمة، خصوصًا أشباه الموصلات، التي بدأت الاستثمار فيها في الثمانينيات من خلال المعاهد البحثية التي نقلت المعرفة التقنية وأسست شركات مثل “UMC” و”TSMC”، مما سمح للجزيرة بتبنّي نموذج “المصنع الخالص”.
– مكن هذا النموذج تايوان من امتلاك بنية تحتية متخصصة وتحقيق قفزة نوعية في الصناعة، وتزامن هذا التطور مع استثمار واسع في التعليم والبحث، إذ تعاونت الجامعات مع الصناع، وتوسعت برامج الهندسة والحوسبة لتلبية الطلب المتزايد.
– كما انخرطت الشركات التايوانية بعمق في سلاسل التوريد بعد الأزمة، وتركّزت صادراتها تدريجيًا في المكوّنات عالية القيمة، واليوم تنتج نحو 20-21% من أشباه الموصلات العالمية، وتشكل الرقائق الإلكترونية 38% من تجارتها السلعية.

– بمجرد انقشاع غبار الأزمة، ظن العالم أن تايوان نجت صدفة، لكن العقود اللاحقة أثبتت أن ما حدث لم يكن حظًا، بل هندسة استراتيجية لاقتصاد يعرف كيف يقاوم، وكيف يعيد تشكيل نفسه.
– بينما تتنافس القوى الكبرى الآن للسيطرة على أشباه الموصلات، تقف تايوان في القلب: جزيرة صغيرة تمسك بمفاتيح التكنولوجيا العالمية، فما نجا بالأمس أصبح قوّة لا يستهان بها اليوم.
– هكذا، تحوّلت تجربة تايوان مع أزمة 1997 من درس في النجاة إلى شهادة على أن الانضباط المالي، وحكمة المؤسسات، وثقافة الاستثمار المتماسكة، ليست مجرد سياسات.. بل درع يحمي الأمم، ويصنع مستقبلها.
المصادر: أرقام- صندوق النقد الدولي- بريتانيكا- جمعية التاريخ الاقتصادي الأمريكية- جمعية واشنطن للتجارة الدولية- تقرير لجامعة واشنطن بتاريخ أكتوبر 1998- صحيفة ديلي ريكورد- ورقة بحثية لمؤسسة “نومورا”- سيميكون تايوان- بيانات لجنة التجارة الدولية الأمريكية- تقرير لوزارة المالية اليابانية- إيشا أسيست مانجمنت
للمزيد من المقالات
اضغط هنا

التعليقات