التخطي إلى المحتوى

في مشهد يختصر هشاشة النظام الاقتصادي الدولي، تتزايد التقديرات والتحذيرات من أن العالم يقف اليوم على أعتاب واحدة من أعنف الحروب الاقتصادية في تاريخه الحديث، فالصراع التجاري المحتدم بين أمريكا والصين لم يعد مجرد تنافس على الرسوم أو الأسواق، بل تحول إلى تهديد مباشر لمستقبل النمو العالمي، مع خسائر قد تتجاوز 8 تريليونات دولار إذا تصاعدت المواجهة بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم.

وتشير تقديرات منظمة التجارة العالمية إلى أن استمرار هذا التوتر وتمدده إلى قطاعات جديدة سيؤدي إلى تفكك اقتصادي واسع النطاق، يعيد رسم خريطة التجارة الدولية ويفقد العالم ما تحقق من تكامل عبر عقود، أما صندوق النقد الدولي فيتحدث عن فاتورة باهظة قد تصل إلى 7 تريليونات دولار خلال عامين فقط، نتيجة ما يسميه “التفتت الاقتصادي العالمي” وما يصاحبه من حواجز جمركية وجغرافية جديدة تهدد سلاسل الإمداد العالمية، فيما تكبدت الشركات الكبرى بالفعل نحو 1.2 تريليون دولار كخسائر مباشرة من الرسوم المفروضة مؤخراً.

جرس إنذار مبكر لحرب اقتصادية

هذه الأرقام الضخمة ليست مجرد إشارات اقتصادية، بل جرس إنذار مبكر لحرب اقتصادية قد تكون الأخطر منذ الكساد الكبير قبل نحو ثمانية عقود، ما يضع العالم أمام مرحلة غير مسبوقة من الانقسام التجاري والسياسي.

خسائر تتجاوز 8 تريليونات دولار.. هذا مصير العالم لو استمرت الحرب التجارية بين أمريكا والصين

وفي خضم هذه الأجواء المتوترة، تحاول منظمة التجارة العالمية بث بعض التفاؤل الحذر، فقد كشفت مديرتها العامة نغوزي أوكونغو إيويالا، خلال مشاركتها في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في السعودية، عن توقعات بتحسن طفيف في أداء التجارة العالمية خلال عام 2025، لتسجل نموا بنسبة 2.4% مقارنة بتقديرات سابقة لم تتجاوز 0.9%.

وأوضحت إيويالا، خلال حوار لها على سكاي نيوز، أن هذا التحسن المؤقت يعود إلى زيادة عمليات التخزين المسبق للبضائع في الولايات المتحدة هربًا من الرسوم الجديدة، إلى جانب انتعاش حركة التجارة في القطاعات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، محذرة من أن هذه المكاسب قصيرة الأمد، إذ ستبدأ الآثار الحقيقية للرسوم الجمركية في الظهور العام المقبل، ما سيؤدي إلى تباطؤ النمو وزيادة الضغوط على الأسواق والمستهلكين.

عام الغموض.. أمريكا والصين علاقة على “صفيح ساخن”

توقعت إيويالا أن يتراجع معدل نمو التجارة العالمية إلى 0.5% فقط خلال العام المقبل، مشيرة إلى أن حالة عدم اليقين السياسي والتجاري ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة على الاستثمارات والقرارات الاقتصادية، ورغم إشارتها إلى بعض الإيجابيات المرتبطة بالتوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، أكدت أن المخاطر السلبية تظل أكبر بكثير، ما يستوجب إصلاحًا عاجلاً في آليات منظمة التجارة العالمية لمنع تفكك النظام التجاري الدولي.

وعن طبيعة العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أوضحت المديرة العامة أن اللقاء الذي جمع الرئيسين شي جين بينغ ودونالد ترامب كان خطوة مهمة لتخفيف حدة التوتر، لكنها حذرت من أن استمرار الانفصال بين أكبر اقتصادين في العالم سيؤدي إلى خسارة نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على المدى الطويل، فيما ستكون الدول النامية الخاسر الأكبر من هذا الانقسام.

خسائر تتجاوز 8 تريليونات دولار.. هذا مصير العالم لو استمرت الحرب التجارية بين أمريكا والصين

وأضافت أن فكرة “العالم المنقسم إلى كتلتين تجاريتين” لم تعد مجرد سيناريو افتراضي، بل احتمال قائم يهدد البنية الأساسية للاقتصاد العالمي، مؤكدة في الوقت نفسه أن حجم المصالح المتشابكة يجعل من الانفصال الكامل أمراً شبه مستحيل.

تحالفات تجارية جديدة وإصلاحات مطلوبة

وأشارت إيويالا إلى أن 72% من التجارة العالمية ما زالت تسير وفق نظام معاملة الدولة الأكثر رعاية (MFN)، معتبرة ذلك دليلاً على وجود “نواة صلبة” يمكن البناء عليها لإعادة الثقة في النظام التجاري الدولي، لافتتا إلى أن التحالفات الاقتصادية الإقليمية الجديدة ليست بالضرورة تهديدًا للنظام العالمي، بل يمكن أن تكون رافعة للتكامل التجاري إذا استندت إلى مبادئ منظمة التجارة العالمية وشجعت على تنويع الشراكات.

إصلاح النظام التجاري الدولي “ضرورة لا خيار”

وشددت المديرة العامة على أن منظمة التجارة العالمية بحاجة ماسة إلى إصلاحات هيكلية، خاصة في نظام اتخاذ القرار القائم على الإجماع، الذي يمنح كل دولة حق النقض ويعطل التوافق في كثير من الملفات الحيوية، ودعت إلى آلية أكثر مرونة تسمح بإبرام الاتفاقات بسرعة ومواكبة التغيرات المتسارعة في الاقتصاد العالمي.

وأكدت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية أن الثقة والشفافية تمثلان الركيزتين الأساسيتين لاستدامة النظام التجاري الدولي، وأن مكافحة الممارسات التجارية غير العادلة يجب أن تكون أولوية المرحلة المقبلة.

خسائر تتجاوز 8 تريليونات دولار.. هذا مصير العالم لو استمرت الحرب التجارية بين أمريكا والصين

العالم أمام مفترق طرق

تبدو تصريحات إيويالا في جوهرها أكثر من مجرد تقييم مرحلي، فهي تشخيص دقيق لمرحلة عالمية حرجة تتقاطع فيها الأزمات الاقتصادية مع التحولات التقنية والسياسية، والعالم اليوم يقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانزلاق إلى تفكك تجاري شامل بخسائر قد تتجاوز 8 تريليونات دولار، أو الشروع في إصلاحات حقيقية تضمن إعادة بناء الثقة وحماية النظام التجاري الدولي من الانهيار.


التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *