التحوّل في محطات الوقود.. من العامل إلى المشرف – أخبار السعودية
خلال الأسابيع الماضية، بدأت بعض محطات الوقود في المملكة تطلب من العملاء سداد قيمة الوقود مقدّماً قبل التعبئة، في خطوة تهدف إلى الحد من حالات التهرّب أو الخلاف حول الدفع، وضمان الانضباط المالي للمحطات. ورغم أن هذه الخطوة بدت في ظاهرها إجراءً احترازياً محدوداً، إلا أنها تعكس حاجة أعمق إلى إعادة تنظيم نموذج الخدمة بأكمله داخل هذا القطاع الحيوي، بما يتناسب مع التحوّلات التي تعيشها المملكة في مختلف المجالات التشغيلية والخدمية.
فالمشهد التقليدي لمحطات الوقود، حيث يقف عامل تحت الشمس يعبئ المركبات واحدة تلو الأخرى، ويتلقى النقد يداً بيد، لم يعد متّسقاً مع التطوّر التقني الذي يعيشه العالم، ولا مع طبيعة الخدمات الحديثة التي باتت تُبنى على السرعة، والانضباط، والتقنية، والأمان.
في أغلب دول العالم، انتقلت محطات الوقود من كونها «نقطة تعبئة» إلى أنظمة تشغيل ذكية قائمة على التعبئة الذاتية. ففي الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا، يعبئ السائق وقوده بنفسه عبر أنظمة دفع إلكترونية فورية، ثم يغادر خلال دقائق دون تعامل مباشر مع العامل. بينما في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، يوجد مشرفون محترفون يشرفون على العمليات، ويراقبون كاميرات السلامة، ويتدخلون عند الحاجة، ويضمنون سير العمل بانسيابية واحتراف.
إلى جانب كفاءتها التشغيلية، تُسهم هذه النماذج الحديثة في تقليل الاحتكاك البشري المباشر داخل المحطات، ما يحد من احتمالات انتقال العدوى أو الميكروبات، خصوصاً في الفصول الحارة أو أثناء موجات الأمراض الموسمية. فمضخة الوقود تُستخدم يومياً من مئات الأشخاص، وبعض الدراسات أشارت إلى أنها من أكثر الأسطح لمساً في المرافق العامة، وهو ما يجعل التحوّل إلى التعبئة الذاتية والإشراف الذكي خياراً أكثر أماناً وصحة للمجتمع.
هذه التجارب الدولية تُظهر أن التحوّل من العامل إلى المشرف ليس استغناء عن الوظائف، بل ترقية لها. فبدل أن يكون العمل يدوياً متكرراً ومجهداً، يصبح إشرافياً منظّماً يركز على الجودة والمساءلة. والمملكة اليوم، وهي تمضي في مسار التحوّل الوطني، مؤهلة لتبني هذا النموذج بما يعكس توجهها نحو الارتقاء بنوعية الوظائف، لا عددها فقط.
ومن هذا المنطلق، قد يكون من المناسب التفكير في إطلاق برنامج وطني لتأهيل «مشرفي محطات الوقود»، عبر معهد متخصص يُعنى بتدريب السعوديين على إدارة التشغيل، ومتابعة جودة الوقود، وفحص المضخات، والتأكد من الالتزام بمعايير السلامة والبيئة. فوجود كوادر وطنية مؤهلة سيمنح القطاع استقراراً تشغيلياً ويضمن الرقابة الميدانية المستمرة.
كما أن هذا التوجّه سيسهم في خلق آلاف الوظائف اللائقة، بحد أدنى للرواتب يوازي طبيعة المهام الإشرافية ومسؤولياتها. وظيفة تجمع بين الجدية المهنية والكرامة الإنسانية، وتُعد امتداداً طبيعياً لفلسفة «السعودة النوعية» التي تسعى الدولة لترسيخها. فبدل أن تظل المحطات رهينة لعمالة مؤقتة بلا مسار مهني، يمكن تحويلها إلى بيئة عمل سعودية محترفة تقوم على الانضباط، والمساءلة، وتطوير الأداء.
ولن يقتصر الأثر على الجوانب التشغيلية فحسب، بل سيمتد إلى تعزيز الثقة والشفافية في هذا القطاع. إذ سيحد وجود مشرف وطني مدرب من احتمالات التلاعب في نوعية الوقود أو كميات الضخ، ويضمن مطابقة المعايير عبر مراقبة دقيقة للمضخات، والجرد اليومي، والأنظمة الإلكترونية. وهو ما سيعيد الثقة بين المحطة والمستهلك، ويحوّلها إلى نموذج مصغر لإدارة الجودة والرقابة الفورية.
إن محطات الوقود رغم بساطة دورها الظاهري، تمثّل واجهة يومية لمفهوم الخدمة والانضباط. والتحوّل فيها من «العامل» إلى «المشرف» ليس تغييراً في الوظيفة، بل في الوعي. هو انتقال من ثقافة التنفيذ إلى ثقافة الإشراف، من اليد العاملة إلى الفكر المنظم، ومن العشوائية إلى المهنية. وهي خطوة صغيرة في ظاهرها، لكنها تعبّر بعمق عن وطنٍ يقرر أن يرتقي حتى في طريقة تعبئته للوقود.
أخبار ذات صلة
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات