كيف تعيد الطباعة الحيوية صياغة خريطة شركات الأدوية؟
داخل مختبر متطور للأبحاث الدوائية، تقترب الساعة من الواحدة ظهرًا حيث يخيم الصمت على المكان، ولا يُسمع سوى أزيز جهاز غريب يشبه الصندوق المضيء.
حول هذا الجهاز يقف فريق من العلماء بترقّب، يحدّقون في شاشة تعرض صورة ثلاثية الأبعاد لأنسجة كبد بشري تنمو طبقة فوق طبقة، فهو ليس عضوًا كاملًا، بل نسيج مطبوع حيويًا بخلايا حقيقية مأخوذة من أحد المرضى.
وبجوار هذا الجهاز توجد طاولة عليها زجاجة تحتوي على مركّب دوائي جديد ينتظر أن يُعرف مدى جدواه في علاج أحد أخطر أمراض الكبد، حيث سيتم اختبار تأثيره مباشرة على هذا النسيج الحي بدلًا من المرور بالمسار الطويل والمكلف للتجارب على الحيوانات.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
في الماضي، كانت تلك الخطوة تحتاج إلى تفاصيل كثيرة ومرهقة في الوقت نفسه، إذ تتطلب أشهرًا من التجارب على الحيوانات، وسنوات من الاختبارات المتتالية، ومليارات الدولارات قبل اكتشاف أن الدواء قد لا يصلح للبشر.
لكن في هذا المختبر الحديث أصبح الوضع مختلفًا، إذ يضع الباحثون قطرات من الدواء على نموذج صغير لهذا الكبد الذي تمّت طباعته للتو بخلايا حقيقية، وبعد دقائق فقط، تبدأ النتائج في الظهور أمام أعينهم، لتظهر الإجابة الحاسمة مبكرًا — هل العقار آمن أم قاتل؟
في هذه اللحظة يدرك الجميع أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، ولم يعد الطريق إلى الأدوية الجديدة هو ذاته؛ فقد دخلت الطباعة الحيوية على الخط، وهي تكنولوجيا لا تختصر الزمن والتكلفة فقط، بل تعيد صياغة خريطة شركات الأدوية وتوزيع النفوذ داخل الصناعة.
ومع هذا التحول، لم تعد شركات الأدوية التقليدية وحدها صاحبة القرار، بل ظهر لاعبون جدد من موردي التكنولوجيا وشركات الخدمات الحيوية، ما قد يعيد رسم خريطة الصناعة عالميًا.
الطباعة الحيوية وصناعة الدواء
خلال العقدين الأخيرين، دخلت تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى مجال الأحياء الحية لتتحول من مشاريع بحثية طموحة إلى أدوات عملية قابلة للتطبيق في اكتشاف الأدوية، واختبار سلامتها، وتصميم علاجات مخصّصة.
هذا التحول لم يغيّر فقط طريقة إجراء الاختبارات المعملية، بل أعاد أيضًا رسم أدوار اللاعبين داخل الصناعة من شركات الأدوية الكبرى، إلى الموردين التكنولوجيين الذين يوفّرون الطابعات والمواد الحيوية، وصولًا لشركات الخدمات المتخصصة في تطوير النماذج الحيوية.
وتشير التقديرات إلى أن سوق الطباعة الحيوية قد يرتفع من نحو 2.4 مليار دولار أمريكي عام 2022 إلى أكثر من 8.3 مليار دولار بحلول 2030، ما يعكس تسارع تبنّي هذه التكنولوجيا على نطاق عالمي.
أما الطباعة الحيوية، فهي شكل متطور من التصنيع، لكنها تختلف عن الطباعة التقليدية بكونها تستخدم مواد حية، إذ يجري دمج خلايا بشرية مع مصفوفات متوافقة حيويًا تُعرف باسم “bioinks”، لبناء هياكل ثلاثية الأبعاد تشبه الأنسجة أو حتى أجزاء صغيرة من أعضاء.
الهدف ليس بالضرورة طباعة عضو كامل قابل للزراعة في الوقت الراهن، بل إنشاء نماذج حيوية قادرة على محاكاة وظائف الأعضاء لاستخدامها في الأبحاث والاختبارات.
مراحل تطوير الدواء قبل وبعد الطباعة الحيوية
المرحلة
|
النماذج التقليدية
|
مع الطباعة الحيوية
|
الأثر المتوقع
|
الاختبارات الأولية
|
خلايا ثنائية الأبعاد وحيوانات
|
أنسجة بشرية مطبوعة ثلاثية الأبعاد
|
نتائج أكثر دقة وأقرب إلى الإنسان
|
تقييم السمية
|
يعتمد على الحيوانات
|
أنسجة أو أجزاء صغيرة من الأعضاء
|
اكتشاف السمية مبكرًا وتقليل الخسائر
|
الزمن
|
10-15 سنة
|
فترة زمنية أقل
|
تسريع الوصول للسوق
|
التكلفة
|
1.3-2.8 مليار دولار
|
أقل بمئات الملايين
|
كفاءة مالية أعلى
|
وقد انعكس هذا التطور مباشرة على مراحل تطوير الأدوية. فبدل الاعتماد المفرط على النماذج الحيوانية أو الخلايا ثنائية الأبعاد، توفّر الطباعة الحيوية نماذج بشرية أكثر واقعية.
فعلى سبيل المثال، أظهرت أنسجة كبد مطبوعة ثلاثية الأبعاد قدرتها على رصد سمّيات دوائية لم تتمكن النماذج التقليدية من كشفها.
هذا أمر بالغ الأهمية خاصة إذا علمنا أن أكثر من 90% من الأدوية المرشحة تفشل في المراحل السريرية المتقدمة بسبب مشكلات تتعلق بالسلامة أو الفعالية، وهو ما يكلّف الشركات خسائر بمليارات الدولارات.
إلى جانب ذلك، أسهمت الطباعة الحيوية في تسريع عملية اكتشاف الجزيئات الجديدة وتقليل تكاليفها، فالتقديرات تشير إلى أن تطوير دواء جديد قد يكلف ما بين 1.3 إلى 2.8 مليار دولار أمريكي ويستغرق من 10 إلى 15 عامًا قبل الوصول إلى السوق.
بينما تتيح النماذج البشرية المطبوعة بدقة عالية للباحثين اختبار عدد أكبر من المركّبات بسرعة وبمعدلات تكرار أعلى، ما يقلل الزمن اللازم للوصول إلى مرشح دوائي واعد ويخفض الإنفاق على التجارب غير المثمرة.
وبالفعل، استخدمت شركات مثل أورجانوفا أنسجة كبد مطبوعة لاختبار أكثر من 20 مركبًا دوائيًا، ونجحت في رصد مؤشرات سُمّية لم تظهر في النماذج التقليدية.
ولا يتوقف الأثر عند هذا الحد، إذ فتحت الطباعة الحيوية الباب أمام مفهوم الطب الشخصي. فمن خلال طباعة أنسجة مأخوذة من خلايا المريض نفسه، يمكن للأطباء اختبار استجابته لعلاج محدد قبل إعطائه فعليًا.
هذا التوجه يكتسب أهمية خاصة في مجالات مثل السرطان أو الأمراض النادرة، حيث لا تنجح العلاجات الموحّدة مع جميع المرضى.
وإلى جانب فائدته السريرية، أصبح الطب الشخصي سوقًا واعدًا يجذب استثمارات ضخمة، مدفوعًا بتقديرات النمو السريع لسوق الطباعة الحيوية الذي يتوقع أن يتجاوز مليارات الدولارات في أقل من عقد.
أطراف جديدة في قطاع الأدوية
خلال الأعوام الأخيرة، لم يعد المزودون التكنولوجيون مجرد أطراف مساعدة، بل تحوّلوا إلى لاعبين استراتيجيين في قلب صناعة الأدوية.
على سبيل المثال، شركة سيلينك (بيكو حاليًا) التي تأسست عام 2016 بلغت قيمتها السوقية أكثر من 1.3 مليار دولار بحلول 2021، بعد أن وسّعت أعمالها من بيع طابعات وأحبار حيوية إلى منصات متكاملة تخدم كبرى شركات الأدوية.
أما أورغانوفو الأمريكية، فقد ركزت على شراكات مع شركات مثل فايزر لتطوير نماذج كبد مطبوعة تستخدم في اختبارات السُمّية، مما يعكس تحوّل الموردين إلى شركاء بحثيين دائمين بدلاً من مجرّد بائعين للأجهزة.
في موازاة ذلك، يشهد السوق بروز شركات سي.آر.أوز (CROs) المتخصصة بالطباعة الحيوية، ويُعزى جزء كبير من هذا النمو إلى نماذج “الخدمات حسب الطلب”.
هذه النماذج تتيح لشركات الأدوية الصغيرة والمتوسطة الوصول إلى تكنولوجيا متقدمة دون الحاجة لاستثمارات بملايين الدولارات في مختبرات داخلية.
أما على مستوى نماذج الأعمال، فالمزودون لم يعودوا يكتفون ببيع الأجهزة أو المواد الحيوية، بل بدأوا بالتحول إلى نماذج متقدمة تشبه قطاع البرمجيات باشتراكات سنوية، وتراخيص لاستخدام المنصات، وربط بالبيانات السحابية.
هذا النموذج يزيد من العوائد المتكررة ويجذب المستثمرين، مما يجذب المزيد من رؤوس الأموال، إذ أظهرت بيانات بيتش بوك أن استثمارات رأس المال المغامر في شركات الطباعة الحيوية نمت بأكثر من 50% منذ 2018 وحتى 2022.
الفرص والقيود التنظيمية والأخلاقية
ورغم الفرص، تبقى التحديات التنظيمية كبيرة. فالسؤال الأبرز: هل يجب معاملة نسيج مطبوع لاستخدامه في الاختبار كـ”منتج مخبري” أم كـ”منتج طبي”؟
إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) وضعت بالفعل خطوطاً إرشادية للطباعة ثلاثية الأبعاد للأجهزة الطبية، لكن الإطار الخاص بالطباعة الحيوية لا يزال قيد التطوير.
وفي تقرير صادر عن نفس الإدارة عام 2023 أشار إلى أن أكثر من 100 طلب تنظيمي تلقته الهيئة تضمن منتجات أو نماذج تعتمد على الطباعة الحيوية، ما يعكس تسارع الحاجة إلى إطار واضح.
إلى ذلك، تظهر قضايا معقدة حول حقوق الملكية الفكرية للأنسجة المطبوعة، إضافةً إلى ضرورة وضع معايير موحدة للجودة، حيث أن غياب هذه المعايير قد يؤدي إلى تضارب في نتائج الاختبارات ويعرقل التبنّي التجاري الواسع.
باختصار، الطباعة الحيوية ليست مجرد أداة علمية واعدة، بل قوة تحويلية تعيد توزيع القيمة عبر منظومة الأدوية، من مختبرات داخلية باهظة إلى اقتصاد جديد متعدد اللاعبين.
ومع نمو السوق بمعدلات سنوية تتجاوز 15% حتى عام 2030، وفق تقارير أصدرتها جراند فيو ريسيرش، فإن الشركات التي تستثمر مبكراً أو تدخل في شراكات استراتيجية ستكون صاحبة السبق.
في النهاية، قد يبدو مشهد طابعة حيوية تبني نسيجًا بشريًا طبقة فوق طبقة أقرب إلى الخيال العلمي، لكن الأرقام والاختراقات تثبت أنه يتحوّل بسرعة إلى واقع ملموس.
ومع أن الطريق لا يزال مليئًا بالتحديات التنظيمية والأخلاقية، فإن من يجرؤ على الاستثمار في هذا القطاع، قد يكون في المستقبل بموقع القيادة داخل السوق الدوائي العالمي.
المصادر: أرقام- رويترز- بلومبرج- ساينس دايركت- نيتشر- بوب ميد سنترال (PMC)– إدارة الغذاء والدواء الأمريكية
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات