عبدالعزيز رشيد الحصان.. رائد التعليم الأهلي في شرق السعودية – أخبار السعودية
هناك ارتباط وثيق بين اختراع وصناعة الآلة الكاتبة وتطور فن الطباعة، الذي ابتكره العالم الألماني غوتنبرغ من خلال الآلة الطابعة الشبيهة بالمكبس لطباعة الأحرف المنفردة. فمنذ زمن غوتنبرغ تنافست الدول الأوروبية فيما بينها لتحسين أداء المطبعة وإعادة تصميمها واختراع آلات تحاكيها بطريقة أفضل وأسهل وأسرع. ومن هنا برزت فكرة اختراع آلة ميكانيكية للكتابة اليدوية بسرعة واتقان. ومن هنا أيضاً دخل أكثر من 50 عالماً ينتمون إلى دول مختلفة في سباق محموم ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر لتحقيق تقدم ما في هذا المجال.
ويقال، إن أول من نجح من هؤلاء في صناعة آلة كاتبة ميكانيكية بشكل بدائي في سنة 1714 هو المهندس الإنجليزي «هنري مل»، الذي كافأته «الملكة آن» ملكة بريطانيا آنذاك بمنحه حق احتكار صناعة آلته البدائية. تلا «هنري مل» المخترع الأمريكي «وليم بريت» في عام 1829، الذي صمم آلة كاتبة على شكل عجلة نصف دائرية. وفي عام 1833 نجح الفرنسي بروغن في اختراع أول آلة كاتبة قادرة على تحريك الورقة بين الأحرف. وسرعان ما طور المخترع الأمريكي «تشارلز غروفر» في سنة 1843 هذه التقنية واستخدمها في آلة كتابة أكثر تقدماً.
بعد ذلك توالت التطورات والاختراعات، لكن لم تستطع أي آلة كاتبة مُخترعة إثبات نفسها من الناحية العملية السهلة والمبسطة إلا في سنة 1868 حينما حدثت طفرة في هذا المجال، كان سببها تضافر جهود 3 مخترعين من الولايات المتحدة هم «كريستوفر شولز» و«كارلوس غلندن» و«صموئيل سول».
جهود هؤلاء الثلاثة أدت إلى اختراع أول آلة كاتبة ناجحة وعملية. وبطبيعة الحال توالت التحسينات على الآلة بعد ذلك حتى وصلت إلى شكلها الحالي. ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن كل الآلات التي تمّ اختراعها كانت بحروف إنجليزية، وبالتالي كان من الصعب استخدامها في الكتابة باللغة العربية. ولهذا السبب بادر المصريان من أصل لبناني «فيليب واكد» و«سليم شلبي سعد حداد» في عام 1914 إلى تصميم أول آلة كاتبة بالأحرف العربية، وأطلقا عليها اسم «حداد»، علماً بأن انتشار الطابعة بالأحرف العربية في البلاد العربية وتحولها إلى آلة مطلوبة في دوائرها الحكومية ومصارفها وشركاتها ومدارسها، استغرق نحو ثلاثة عقود بسبب الصعوبات التي واجهتها المصانع الغربية المنتجة للآلة الكاتبة في صناعة آلات تكتب بالعربية المعاكسة للإنجليزية في اتجاه القراءة والكتابة.
ما سبق، كان توطئة للحديث عن شخصية عصامية تُعرف بـ«رائد التعليم الأهلي في شرق المملكة العربية السعودية»، فمن هي هذه الشخصية؟ ولماذا عُرفت بذلك اللقب؟ وما علاقته بالآلة الكاتبة التي روينا شيئاً من تاريخها؟ هذا ما سنتناوله في هذه المادة المخصصة لتوثيق سيرة المرحوم الشيخ «عبدالعزيز بن رشيد الحصان»، ودوره في توفير معاهد تربوية أهلية لكبار السن وتأسيس رياض لأطفال ما قبل الالتحاق بالتعليم النظامي.
حتى نهايات خمسينات القرن العشرين لم يكن في مدن الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية معاهد خاصة لتعليم الكبار، وبالمثل لم تكن هناك رياض للأطفال في سن ما قبل الالتحاق بالمرحلة الابتدائية، غير أن واحداً من مواطنيها العاملين بالمنطقة الشرقية منها تصدى للأمر بجرأة وشجاعة. ففي سنة 1958 للميلاد قام الشيخ عبدالعزيز رشيد الحصان، وهو من أبناء القصيم العصاميين الذي استوطن وأسرته المنطقة الشرقية، بالاستثمار في التعليم الخاص بمساعدة فنية من المربي المصري الأستاذ محمد عثمان طه، الذي كان يعمل هناك ضمن البعثة التعليمية المصرية.
كان هدف الشيخ الحصان وقتها مساعدة كبار السن ممن فاتهم قطار العلم في تعلم مواد حديثة تتطلبها أسواق العمل الناشئة آنذاك بفعل اكتشاف وتصدير البترول، وما برز على هوامشه من التوسع في الأعمال التجارية والإنشائية والخدمية الكثيرة والمتنوعة، وبمعنى آخر أراد الرجل أن يعين مواطنيه على الإمساك بالكثير من الوظائف في القطاع الخاص من تلك التي كانت تتطلب مهارات اللغة الإنجليزية، واستخدام الآلة الكاتبة باللغتين العربية والإنجليزية، ومسك الدفاتر، وأعمال المحاسبة ومراسلة الشركات وغيرها.
أما هدفه من رياض الأطفال فتمثل في إشغال فراغ الأطفال بتلقي العلوم التمهيدية قبل التحاقهم بالمدارس الحكومية كي يكون استيعابهم أفضل وأسرع، ورهبتهم من الانتظام في المدرسة والاختلاط مع الآخرين أقل. وعليه فقد خصص في معهده قسماً خاصاً للأطفال، يداومون فيه صباحاً ويمارسون من خلاله الكتابة والقراءة والرسم وترديد الأناشيد وخوض المسابقات وبعض الأنشطة الرياضية الخفيفة في جو من العفوية والبراءة.
وسرعان ما شقّت أفكار الشيخ الحصان طريقها إلى التنفيذ عبر افتتاح مدرسة في مدينة الدمام أُطلق عليها اسم غير مألوف هو «معهد الثقافة العربي»، وهو المعهد الذي حقق نجاحاً كبيراً واستقطب أناساً من أعمار مختلفة، كان بعضهم من الطلبة الذين أرادوا التزود بعلوم تساعدهم على إيجاد وظائف ذات دخول جيدة خلال العطلة الصيفية الطويلة، وكان البعض الآخر من التجار الذين رغبوا في تعلم المحاسبة ومسك الدفاتر واللغة الإنجليزية كي يطوّروا أعمالهم التجارية، وكان البعض الثالث من الموظفين العازمين على ترك وظائفهم التقليدية والالتحاق بالوظائف العصرية ذات المدخول المرتفع بمقاييس ذلك الزمن.
وبسبب النجاح الذي حققه المعهد في الدمام، قرر الشيخ الحصان افتتاح فرع له في مدينة الخبر في عام 1959.
احتل «معهد الثقافة العربي» بالخبر موقعاً إستراتيجياً بوسط السوق التجاري الحديث في شارع الملك خالد الذي كان يُسمى وقتها شارع الأمير خالد، ما بين شارعي التقاطعين الثالث والرابع، حيث استأجر الحصان معظم شقق الدور العلوي من عمارة حديثة مكونة من دورين (أرضي وعلوي)، كان يتردد وقتها أن ملكيتها تعود إلى الأمير خالد بن عبدالعزيز( الملك خالد لاحقاً)، ثم حوّل هذه الشقق إلى مكاتب إدارية وفصول دراسية وغرف مطالعة، ووضع فوقها لوحة طويلة لافتة للنظر تقول «معهد الثقافة العربي». قام الأستاذ محمد عثمان طه بإدارة فرع المعهد في الخبر، كما قام باختيار المدرسين من أطقم المعلمين العاملين في مدارس الخبر الابتدائية، ولاسيما من مدرسة الخبر الثانية التي بنتها أرامكو والتي كانت تعجّ بالمعلمين العرب من ذوي الكفاءة والخبرة. فكان هؤلاء المدرسون القادمون من مصر والأردن وفلسطين ولبنان يدرّسون صباحاً في المدارس التي عُينوا فيها من قبل وزارة المعارف، ويعملون مساء (من الساعة السادسة حتى الساعة العاشرة) في «معهد الثقافة العربي»، خصوصاً أن بعضهم كان مُجازاً في العلوم التي كان المعهد يدرّسها لطلبته ومنتسبيه.
معهد الثقافة العربي
وأتذكر شخصياً أن الكثير من أبناء وسكنة الخبر ممن انتسب للمعهد كان فخوراً بالتحاقه بهذا المعهد، ويمشي وسطنا بخيلاء، ويضع في جيب معطفه أكثر من قلم حبر، وكأنه التحق بجامعة عريقة وتخرج منها بدرجة علمية عليا. والحقيقة أن «معهد الثقافة العربي» رغم حداثة فكرته في تلك الفترة من تاريخ الخبر المبكر تمكن من ترسيخ أقدامه وتوطيد اسمه في الساحة التربوية، بل وراح يقتفي أثر المعاهد العليا في الخارج من حيث تزويد طلبته ببطاقات هوية خاصة (كارنيهات) تمكنهم من الدخول للمعهد وقت ما يشاؤون لأغراض المطالعة والمراجعة، ومنحهم شهادات تفيد بإكمالهم برامج كاملة في هذا التخصص أو ذاك.
كان أكثر التخصصات من حيث الإقبال ــ طبقاً لما رواه لنا أحد المدرسين ــ هو الكتابة على الآلة الكاتبة. وهذا لم يكن غريباً لأن معظم الشركات والمؤسسات والمصارف آنذاك كانت بحاجة لمن يجيد التعامل مع الآلة الكاتبة، في كتابة الرسائل أو استنساخها أو إعداد التقارير المطبوعة، ناهيك عن أن الآلة بحد ذاتها كانت من الاختراعات الساحرة والجاذبة في تلك الأيام، ولم تكن متوفرة وقتها للبيع إلا من نوع «أوليفيتي» الإيطالي لدى محلات «العلم الأخضر» في شارع الملك خالد لصاحبيها التاجرين البحرينيين علي وجاسم بن الشيخ. ولهذا السبب اهتم «معهد الثقافة العربي» بصفة خاصة بفصول تعليم الآلة الكاتبة وزودها بـ15 آلة بعضها باللغة العربية والبعض الآخر باللغة الإنجليزية.
ويمكننا القول، إن «معهد الثقافة العربي» بفرعيه في الدمام والخبر، كان نواة صروح تعليمية خاصة كثيرة أقامها الشيخ عبدالعزيز الحصان وولده رشيد عبدالعزيز الحصان من بعده في مدن المنطقة الشرقية إلى أن وصلت اليوم إلى «مجموعة الحصان للتعليم والتدريب القابضة». ومن هنا أُطلق على الشيخ الحصان لقب «رائد التعليم الأهلي بالمنطقة الشرقية»، وهو لقب مستحق ليس لأن صاحبه وقف وراء فكرة افتتاح أول معهد أهلي لتعليم الكبار وأول روضة خاصة للأطفال فقط، وإنما أيضاً لأنه كان مؤمناً بأن المرأة هي نصف المجتمع وهي صانعة الأجيال، وبالتالي فمن الضروري إتاحة الفرصة أمامها للانخراط في العملية التعليمية والتربوية. وقد تجلى ذلك في قيامه بتأسيس وافتتاح أول مدرسة أهلية لتعليم البنات بالمنطقة الشرقية سنة 1959، أي قبل أن تفتح الرئاسة العامة لتعليم البنات مدارسها بعامين، هذا علماً بأن تعليم البنات حتى تاريخه كان يتم داخل بعض البيوت على يد من كان يُطلق عليهن «المطوّعات»، باستثناء شبه مدرسة للبنات افتتحتها البحرينية المثقفة «أمينة السيد» داخل منزلها الفسيح في شارع الملك فهد في خمسينات القرن العشرين.
فكرة تأسيس فصول لتعليم الطباعة
تُوفي الشيخ الحصان ودُفن بمدينة الدمام في عام 1409 للهجرة. أما ميلاده فقد كان في القصيم في عام 1330 للهجرة ونشأ فيها نشأة عصامية دون الاعتماد على شيء سوى المولى عز وجل ثم قدراته الذاتية. وحينما شبّ عمل لبعض الوقت في التجارة، مهنة والده ومعظم أقاربه من أهل بريدة، قبل أن يترك التجارة ويستقر بالدمام للعمل في «هيئة المشاريع العمرانية» التي صار لاحقاً مديراً لها. وتذكر المصادر التاريخية الخاصة بعائلة «الرشيد الحصان» في المملكة العربية السعودية والكويت أنهم ينتسبون إلى الجبور من بني خالد، وأن بعضهم هاجر إلى الخميسية في جنوب العراق ومن ثم إلى الكويت من أجل التجارة في القرن التاسع عشر الميلادي.
نقطة التحول في حياة الشيخ حصان ــ طبقاً لما ورد في مقال عنه بجريدة اليوم (15/ 1/ 2015) ــ كانت يوم أن قام بنشر إعلان في الصحافة باسم «هيئة المشاريع العمرانية» يطلب فيه سكرتيراً يجيد الطباعة على الآلة الكاتبة. جلس الشيخ الحصان ينتظر تقدم أي شخص لإشغال الوظيفة، لكن انتظاره طال دون جدوى. ومن هنا بدأت فكرة تأسيس فصول لتعليم المواطنين والراغبين الطباعة على الآلة الكاتبة تلحّ عليه، قبل أن تتطور الفكرة إلى تأسيس معهد أهلي يقوم بتدريس الطباعة على الآلة الكاتبة، إلى جانب غيرها من العلوم ذات الصلة بالأعمال المكتبية والتجارية.
وهكذا كانت الآلة الكاتبة هي التي أوحت للشيخ الحصان بفكرة تأسيس «معهد الثقافة العربي» في كل من الدمام والخبر، وهي التي ارتبط اسمها باسم معهده أكثر من أي شيء آخر.
أخبار ذات صلة
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات