الجدل الاستثماري.. بين عباءة الفكر وأجندات الطمس – أخبار السعودية
في مشهد إعلامي متسارع ومنصات تواصل متفجرة بالرأي والضجيج، ظهر نمط جديد من التفاعل يمكن تسميته بـ«الجدل الاستثماري».
ظاهرة تتجاوز في جوهرها مجرد النقاش أو الاختلاف في وجهات النظر، بل ترتدي عباءة الفكر والانفتاح لتخدم أجندات أعمق وأكثر خطورة من ظاهرها.
المسألة لم تعد مجرد جدل حول الاستثمار والاقتصاد أو حرية التعبير، بل باتت حقل ألغام فكرياً تتسرب منه تيارات أيديولوجية ذات أهداف سياسية واجتماعية بعيدة المدى، بعضها يسعى صراحة لتفكيك المنظومات الدينية والثقافية الراسخة والهوية الوطنية.
أولاً: جدل عبثي بواجهة فكرية
الجدل الاستثماري كما يروج له في بعض الدوائر ليس نقاشاً نزيهاً حول الفرص الاقتصادية أو تحديات العولمة، بل يُستخدم أداةً لتسلل أفكار غريبة إلى البنية المجتمعية المحافظة.
يتم تغليف هذه الأفكار بمصطلحات براقة مثل «الحرية»، «الانفتاح»، و«التحول الإنساني»، لكنها في الواقع لا تتجاوز كونها محاولات ممنهجة لاختراق القيم الراسخة وتهيئة العقل الجمعي لتقبل طروحات أيديولوجية ذات طابع تدميري للهوية.
يُراد لهذا الجدل أن يُؤطر على أنه تنوع مشروع في وجهات النظر، لكنه في حقيقته فكر عبثي، يُراد به تمرير رؤى سياسية ذات مرجعيات خارجية تحت غطاء «الرأي الآخر».
لا يهم أصحابه إن كانت هذه الأطروحات متناقضة مع التاريخ أو الدين أو الهوية، المهم هو أن تُطرح وتُفرض عبر التكرار الإعلامي حتى تصبح «طبيعية».
ثانياً: الاستثمار في البسطاء
واحدة من أبرز سمات هذا الجدل هي استغلال شريحة من البسطاء في المجتمع، أولئك الذين لم يتشكل لديهم وعيٌّ فكريٌّ عميقٌ بعد، فيتم التلاعب بعواطفهم الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
يتم اختيارهم بعناية ليكونوا أدوات تمرير للطرح، سواء عبر استضافتهم في منابر إعلامية أو دعمهم في منصات التواصل.
فجأة، يتحوّل شاب لا يمتلك أدوات تحليل أو خلفية معرفية راسخة إلى «صوت يمثل الجيل الجديد»، ويتم الترويج له على أنه من دُعاة الوعي والنهضة، بينما هو في الحقيقة مجرد وسيلة ليتم دفعه في مواجهة المجتمع، لا بهدف البناء، بل بهدف الإرباك.
النتيجة؟!.. تنقسم المنصات إلى جمهور مشجع وآخر غاضب، وتُختطف الطاولة من تحت أقدام المختصين والعقلاء، وتصبح مساحة الجدل مشوشة، تمهّد لتشكيك أعمق.
ثالثاً: المشروع الإنساني كأداة طمس
أما الخطر الأعمق فيكمن في البعد الفكري للمشروع، الذي يعتمد على تغليف أجندة العلمنة والطمس الديني بمصطلحات إنسانية.
يروج البعض لفكرة «الإنسان أولاً» بطريقة تبدو نبيلة، لكن المضمون يتجاوز حدود الأخلاق العالمية المشتركة إلى طرح فلسفة ترى أن الأديان كلها عائق أمام «التطور الإنساني».
تُضخم المآسي باسم «حقوق الإنسان»، وتُهاجم القيم الدينية باعتبارها «تقييداً للحريات»، ويُعاد تعريف الخير والشر بناءً على أطر وضعية غربية، لا على قواعد ربانية.
وتحت شعار «الإنسانية»، يتم إلغاء كل خصوصية دينية أو ثقافية، ليتم تفكيك الانتماء، وتحويل الفرد إلى كائن عائم في فضاء العولمة، لا ينتمي إلا لفكر مستورد مفرَّغ من الروح.
يتم تقديم ذلك عبر أفلام، وثائقيات، ومقالات فكرية، ويُختار له سفراء من مختلف الشرائح، من مشاهير الفن إلى أصوات سياسية ليبرالية كلها تعمل في تناغم لإقناع الأجيال الجديدة أن الدين «خيار شخصي»، وأن القيم ليست إلا «تفضيلات»، وأن كل ما يهم هو «الحرية الفردية».
رابعاً: مقاومة الجدل باستراتيجية وعي
هذه الظاهرة لا يمكن مواجهتها بالصراخ أو التخوين، بل بفهم سياقها العميق، وتحليل أبعادها، ثم إعداد خطاب مضاد قائم على العقل والمنطق.
يجب أن يُستثمر في الوعي، وفي إعادة بناء مفاهيم الهوية والانتماء والكرامة الحضارية، فالحرب هنا ليست ضد فكرة معينة، بل ضد طريقة تفكير ملوثة بسموم ظاهرها التسامح وباطنها التفكيك.
المطلوب اليوم هو تجفيف منابع هذا الجدل، لا بمنعه أو قمعه، بل بفضحه وكشف تمويله وتحليل هندسته الفكرية، وتفكيك بنيته الخطابية.
لا بد من تمكين صوت العقلاء، ودعم المنصات الوطنية الواعية، وتوجيه الإعلام لنقل النقاش من دائرة «الافتتان بالطرح الغربي» إلى تفكيك أطروحاته الخادعة.
الجدل الاستثماري ليس بريئاً، ولا عفوياً، بل هو جزء من معركة سرديات كبرى تُخاض على الأرض الرقمية.
إن من يظن أن المسألة نقاش فكري فقط، لم يدرك بعد حجم المشروع. فالمواجهة هنا تتعلق بالحفاظ على الدين، والهوية، والعقل، وهؤلاء الذين يروجون لمشروع «الإنسانية بلا دين» هم أنفسهم أدوات لمشروع عالمي لا يرى في الأديان إلا عقبة يجب تجاوزها.
ولذلك، فالحذر كل الحذر من الانزلاق في دائرة الجدل، دون امتلاك خارطة الوعي.
أخبار ذات صلة
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات