كيف يصنع تغير بسيط إعصارًا في سوق الأسهم؟
“فراشة ترفرف في البرازيل يمكنها أن تصنع إعصارًا في تكساس”.. هذا ما قاله عالم الأرصاد الجوية “إدوارد لورينز” ليصوغ مصطلح “تأثير الفراشة” في ستينيات القرن الماضي، والذي توسع لاحقًا ليتم استخدامه في مجالات عدة.
وفي عالم الأسواق المالية، يتم الإشارة إلى هذا المفهوم على أن حدثًا صغيرًا، مثل تصريح سياسي أو تغيير في سياسة نقدية، يمكن أن يُحدث تقلبات كبيرة في الأسواق العالمية. فالأسواق، بطبيعتها، هي “أنظمة غير خطية”، أي أن النتائج دائمًا متناسبة مع الأسباب، مما يجعلها عرضة لتأثيرات غير متوقعة.
تركيا تؤثر على وول ستريت
ويجسد “تأثير الفراشة” هنا مدى ترابط وتعقيد النظام الاقتصادي العالمي، حيث إنه نظام يتأثر بتغيرات عدة، كما أن اتجاهات المتعاملين وإدراكهم لما يحدث من حولهم يؤثر أيضًا وليس المتغيرات الاقتصادية والمالية البحتة فقط.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وهناك العديد من الأمثلة التي تبرز هذا المفهوم مثل الأزمة المالية العالمية أو فقاعة الدوت كوم، وحتى بعض التغيرات التي قد تكون أقل في حدتها ولكنها مع ذلك تؤثر على السوق بشكل كبير وربما غير متناسب.
فعلى سبيل المثال وفي مارس 2021، أعلن الرئيس التركي إقالة محافظ البنك المركزي، وهو الثالث الذي يُقال خلال أقل من عامين. هذا الحدث المحلي تسبب في سلسلة من ردود الفعل العالمية، أولها على سوق النقد حيث انخفضت الليرة التركية بنسبة تجاوزت 15% مقابل الدولار الأمريكي، كما تراجعت مؤشرات الأسهم التركية بنسبة 10% وسط مخاوف استمرار التدخلات السياسية في السياسات النقدية.
واندفع المستثمرون الخارجون من السوق التركي نحو سندات الخزانة الأمريكية كملاذ آمن، مما أدى إلى انخفاض العائد على سندات الخزانة الأمريكية لمدة 10 سنوات بمقدار 3 نقاط أساس، كما ارتفع مؤشر سوق الأسهم التكنولوجية الأمريكية التي تعتبر ملاذا آخر ولكن لرؤوس الأموال المغامرة قياسًا بالسندات.
ويعكس هذا أن قرارًا في تركيا كان له أثر مباشر يُمكن قياسه على السوق الأمريكي، ولا شك أن تأثيراته امتدت إلى أسواق أخرى، لا سيما أسواق الاقتصادات الناشئة التي شهدت تدفقًا لرؤوس الأموال الساخنة بعدما غادرت الأخيرة السوق التركي.
والشاهد هنا أن ما أسهم في زيادة تأثير التغيرات في تركيا على السوق الأمريكي كان حدوث هذه التغييرات في وقت يشهد فيه سوق الأسهم الأمريكي ارتفاعًا بالفعل بسبب رهانات على ارتفاع أسعار الأسهم التكنولوجية بعد انخفاضها لمستوى دون 13 ألف نقطة خلال فبراير 2021، قبل أن تعاود الصعود بشكل سريع خلال مارس ليكسب المؤشر أكثر من ألف نقطة خلال هذا الشهر، أي أن تحركات رأس المال دعمت اتجاهًا قائمًا بالفعل.
الاثنين الأسود وعدوى الانهيار
وبعد أن شهدت وول ستريت انهيارًا مدويًا في 19 أكتوبر 1987، حيث فقد مؤشر داو جونز الصناعي ما يقارب 22.6% من قيمته في يوم واحد، ظهر “تأثير الفراشة بشكل حاد، لا سيما على الأسواق الأوروبية، حيث انتقل تأثير الانهيار إلى أوروبا مع افتتاح الأسواق في اليوم التالي، لتسجل خسائر تاريخية بالأرقام:
– مؤشر “فاينانشال تايمز 100” في لندن كان من أكثر المؤشرات تضررًا، حيث فقد ما نسبته 25% من قيمته بين 19 و23 أكتوبر 1987، وهو أحد أكبر الانخفاضات خلال أيام معدودة في تاريخه.
– بورصة أمستردام: شهدت تراجعًا حادًا بلغ 12% في يوم الاثنين الأسود وحده، تلاه انخفاض إضافي بنسبة 6% في اليوم التالي، ليصل إجمالي التراجع خلال يومين إلى 18%.
-أما بورصة فرانكفورت فقد تراجعت بشدة، حيث فقدت مؤشراتها الرئيسية أكثر من 15% من قيمتها السوقية خلال نفس الفترة، رغم اختلاف الأرقام الدقيقة بين المصادر.
والملاحظ هنا أن الانهيار الأوروبي حدث على الرغم من “خصوصية” بعض أسباب الانهيار المقتصرة على السوق الأمريكي، وأهمها الإفراط في الاعتماد على التداول الآلي والتأمين على المحافظ ضد الخسارة بما أجبر شركات كثيرة على البيع في يوم واحد وفقًا لهذه العقود التي تفرض عليها البيع حال انخفاض الأسهم بنسبة محددة.
ومن بين الأسباب أيضًا للاثنين الأسود المبالغة في تقييم الأسهم والمضاربة والتوترات الاقتصادية العالمية واتفاقيات العملات وارتفاع أسعار الفائدة وعجز الميزان التجاري الأمريكي، أي أنه يمكن النظر إلى الاثنين الأسود في السوق الأمريكي نفسه على أنه اجتماع لأكثر من تأثير فراشة معًا لتحدث هذا التأثير المدوي.
فلماذا انتشر التأثير إذن إلى أسواق أخرى بهذه الحدة؟
الإجابة: بسبب تأثير الفراشة ولكن هذه المرة بشكل تقليدي ويقصد به “عدوى” الخوف في الأسواق وخاصة هؤلاء من غير ذوي الخبرة، والرغبة في التحوط ضد هذا الخوف من قبل المستثمرين الكبار.
فراشة “محمودة” تتحول لإعصار
من أبرز الأمثلة على ظاهرة “تأثير الفراشة” في الأسواق المالية، ما حدث في مطلع الألفية الجديدة عندما قرر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خفض سعر الفائدة بشكل متسارع، من 6.5% في منتصف عام 2000 إلى 1.2% فقط.
كان الهدف من هذا القرار هو حماية الاقتصاد الأمريكي من الدخول في ركود بعد تداعيات أزمة الأسواق الآسيوية عام 1998، وهو إجراء كان يُنظر إليه حينها كخطوة حكيمة وضرورية لإنعاش الاقتصاد.
لكن، وكما في تأثير الفراشة، حيث يمكن لحدث صغير أن يؤدي إلى نتائج ضخمة وغير متوقعة، أدى هذا الخفض الحاد في أسعار الفائدة إلى سلسلة من التغيرات العميقة في السوقين الأمريكي والعالمي.
فقد انخفضت الفائدة على الرهن العقاري في عام 2003 إلى أدنى مستوياتها التاريخية، حيث وصلت الفائدة على القروض العقارية لمدة 30 عامًا إلى 5.23% فقط. هذا الانخفاض شجع ملايين الأمريكيين على الاقتراض لشراء المنازل، حتى أولئك الذين لم تكن لديهم القدرة المالية الكافية للوفاء بالالتزامات طويلة الأجل.
ومع تسهيل شروط الحصول على القروض العقارية، ضمن برامج حكومية مثل مبادرة الرئيس الأسبق بيل كلينتون لتسهيل تملك المنازل، أصبح العقار ضمانًا كافيًا للقرض، دون الحاجة إلى ضمانات إضافية.
هذا التوجه أدى إلى زيادة هائلة في الطلب على العقارات، وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، حتى بين الأسر ذات الدخل المحدود.
ومع مرور الوقت، بدأت تظهر تعثرات واسعة في سداد القروض، وازداد المعروض من العقارات التي لا تجد مشترين. وهكذا، تحولت “الإجراءات المحمودة” التي بدأت بنيّة حماية الاقتصاد من الركود، إلى شرارة أشعلت أزمة الرهن العقاري الأمريكية، التي انفجرت لاحقًا في عام 2008، مسببًة انهيارًا ماليًا عالميًا وإفلاس العديد من المؤسسات والبنوك الكبرى.
هذه السلسلة من الأحداث توضح تأثير الفراشة في الأسواق المالية: قرار صغير أو إجراء يُنظر إليه كإيجابي في لحظته، يمكن أن يُحدث موجات من التغيرات غير المتوقعة، تؤدي في النهاية إلى أزمات كبرى تهز الاقتصاد العالمي بأسره.
التعامل مع تأثير الفراشة
وفي هذا الإطار، تشير الدراسات إلى أن حوالي 94% من صغار المستثمرين يعجزون عن التمييز بين المعلومات الجوهرية والمؤثرات الثانوية غير المهمة عند اتخاذ قراراتهم الاستثمارية.
وفي ظل تدفق هائل من البيانات والأخبار، يصبح من السهل أن تؤدي معلومة بسيطة أو حدث هامشي – أشبه برفرفة جناح فراشة – إلى تغييرات كبيرة في سلوك المستثمرين، فغالبًا ما تدفع هذه المؤثرات الجزئية الكثيرين إلى اتخاذ قرارات استثمارية خاطئة، نتيجة عدم القدرة على الفصل بين ما هو مؤثر فعليًا وما هو مجرد ضوضاء لا علاقة له بجوهر الاستثمار.
ويتجلى تأثير الفراشة أيضًا في سلوك المستثمرين الصغار في السوق الأمريكي، حيث أشار 40% منهم إلى أنهم يضطرون لاتخاذ قراراتهم بناءً فقط على اتجاه السوق أو حركة أحد الأسهم في الوقت الحالي.
هذا السلوك يعكس كيف يمكن لمعلومة بسيطة أو تغير طفيف في السوق أن يتسبب في موجة من ردود الفعل الجماعية، دون تحليل معمق للمتغيرات الأساسية، لذا قد تبدأ شرارة قرار فردي صغير، لكنها سرعان ما تتحول إلى موجة بيع أو شراء واسعة، تؤثر على السوق بأكمله، في صورة عملية حية لتأثير الفراشة في الأسواق المالية.
فما الذي يمكن أن يتعلمه المستثمر من تأثير الفراشة في الأسواق:
– الأسواق غير خطية: لا يمكن التنبؤ بردود فعلها بسهولة، وقد تؤدي أحداث صغيرة إلى نتائج ضخمة.
– أهمية التنويع: توزيع الاستثمارات يقلل من تأثير الأحداث غير المتوقعة.
– التركيز على الاستثمار الطويل: يساعد في تجاوز الضوضاء قصيرة الأجل الناتجة عن تأثير الفراشة.
– الوعي العالمي: متابعة الأخبار العالمية ضروري لاتخاذ قرارات استثمارية مدروسة.
– الاستفادة من التقلبات: المستثمرون الصبورون يمكنهم استغلال فترات التراجع لبناء مراكز قوية في شركات لديها فرص للنمو.
المصادر: أرقام- جولدمان ساكس- إيكونوميست- نيويورك تايمز- فاينانشيال تايمز
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات