لم يعد للكلام بقيّة – أخبار السعودية
إثر تناول القطعة الأخيرة من حلوى التيرامسيو في مقهى (GINORI 1735) في روما، وأمام الأطباق الملونة ذات النقوش المبهجة، التي يمكنك شراؤها من متجرهم مباشرة، أو عبر موقعهم الإلكتروني، قبل أن تُحضِر النادلة الإيطالية البشوشة المولودة لأبوين مصريين من الإسكندرية، فاتورة الحساب، تذكرت أن الرحلة شارفت على نهايتها.
أوردت المديرة السابقة في شركة أمازون عبارة تعنينا جميعًا: «لا أظن أننا كنا نفكر بمآل هذه الأشياء في النهاية».
وملايين السلع تجوب أنحاء العالم بضغطة زر، تصل هدايا ومكافآت منا لأنفسنا، لتنتهي بعد ذلك بمحاولات التخلص منها، أو تكديسها في ظلام المخازن، أو تمريرها لآخرين نظن أنهم بحاجة لها! هناك سلع تطلب وتضلّ الطريق لأصحابها؛ لذلك عمدت بعض شركات التوصيل إلى وضع نهاية لمكوثها الطويل في مخازنها المكتظة. مئات القطع الجديدة في الطرود المغلّفة معروضة للبيع بالكيلو في متاجر، يمكن لأي مشترٍ أن يختار مغلّفًا ويدفع ثمنه حسب وزنه بالكيلو، ويحمله معه مخمّنًا ما ينتظره، سلعة طلبها مستهلك لم يستدل عليه من خلف الشاشة، وأصبحت الآن بين يدي آخر بدافع الفضول، ربما تحوي الطرود الغامضة ملعقة خشبية أو مملحة طعام، ولربما جهاز «لاب توب» أو فستان سهرة من فالنتينو!
رواية مثل (الجزيرة الأخيرة) للكاتب التركي عمر زولفو ليفانيلي، تبدأ بعبارة «كنا نعيش بسعادة وسلام على أفضل مكان آمن، هو بمنزلة قطعة من الجنة، إلى أن ظهر (هو) ذات يوم…»، وتنتهي بعبارة «لقد رويت قصة فقداننا الجزيرة الأخيرة بكل تفاصيلها الحزينة»؛ لتبقى آثار الثعالب، وهجرة النوارس، ولدغات الثعابين في ذهن القارئ.
في الشعر ننصت للبداية دون أن نتوقع شكل النهاية. قصيدة «المدينة» المكتنزة بالصور الحالمة بصوت الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن تبدأ بسؤال عذب:
«وين تبدأ هالمدينة كل يوم؟»
لتنتهي بحقيقة الغياب، ولا جدوى الانتظار، وغموض الإجابات:
«صك شباك التذاكر
وانمحى حبر الختوم
وما لقيتك»
إنها النهاية الحزينة لقصص العشاق في كل مكان! ربما لذلك كتب محمود درويش «لا أريد من الحب غير البداية».
غدت كنيسة (ساغرادا فاميليا) في برشلونة مزاراً، رغم أنها غير مكتملة، مبنية على الطراز القوطي لعبقري الهندسة المعمارية الكتالوني (أنطوني غاودي)؛ الذي توفي عام 1926 ولم ينجز من بنائها سوى الربع! ودفن (غاودي) في سرداب الكنيسة التي يكتمل العمل بها السنة القادمة في ذكرى وفاته المئوية.
إنها النهاية.. أغلبنا لا يمكنه تقبّل الفصل الأخير من دفتر الحياة؛ لذا نحاول تجاهلها أو مراوغتها -كي تتأخر قليلًا- فنحن لا نستحق قسوتها. ومن آلاف النهايات التي نشهدها، دائمًا ما نتصور أن رحيلنا الموعود هو النهاية الوحيدة المؤكدة! وفي نوفيلا (صديق قديم جدًّا) للأديب إبراهيم أصلان المنشورة بعد وفاته بثلاث سنوات، قبل الصفحة الأخيرة عبارة: «لم يعد للكلام بقية». هل شعر بأنه عمله الروائي الأخير؟!
«لم يعد للكلام بقية»، تمتمت بها وأنا أنهض في طريقي لمغادرة المقهى الأنيق نحو السلالم الإسبانية. لتصل في اللحظة نفسها على (الواتس أب) رسالة مبعوثة لمجموعة عشوائية: «ستدهشك سرعة انتهاء الأشياء التي أوهمتك أنها أبديّة».
أخبار ذات صلة
للمزيد من المقالات
اضغط هنا
التعليقات