سجلت السوق المصرفية المصرية خلال الأشهر الخمسة الماضية مشهدا متناقضا ظاهريا، فمن ناحية، مضت البنوك في خفض أسعار الفائدة على الشهادات والودائع لأجل بمعدلات تتراوح بين 3 و5%، ومن ناحية أخرى، واصلت محافظ الادخار تحقيق زيادات غير مسبوقة، لتؤكد أن جاذبية الادخار المصرفي لا تزال قائمة، وأن الثقة في النظام البنكي تتفوق على تأثير تقليص العوائد.
إجمالي المدخرات يرتفع إلى 6.3 تريليون جنيه
أرقام يوليو الماضي عكست هذا التوجه بوضوح، إذ ارتفع إجمالي المدخرات المربوطة بآجال إلى 6.3 تريليون جنيه مقابل 5 تريليونات جنيه في الفترة نفسها من العام السابق، بزيادة تجاوزت 1.2 تريليون جنيه في عام واحد، وبمتوسط تدفقات شهرية قارب 100 مليار جنيه، وهذا النمو الاستثنائي لا يشير فقط إلى قوة السيولة لدى الأفراد، بل يعكس أيضا تمسكهم بالأدوات البنكية كملاذ آمن وسط تذبذبات الأسواق الأخرى.
وكان شهر أبريل نقطة تحول مهمة، إذ سجلت المحافظ قفزة قدرها 134.7 مليار جنيه دفعة واحدة، بالتزامن مع أول خفض للفائدة منذ أكثر من أربع سنوات، وهذه القفزة ارتبطت بسلوك استباقي من جانب العملاء الذين سعوا لتثبيت عوائد مرتفعة قبل أن تبدأ موجة الخفض المتتالية، في دلالة على وعي متزايد بكيفية إدارة المدخرات في بيئة اقتصادية متغيرة.

إعادة استثمار الفوائد.. دورة رأس المال مستمرة
جزء مهم من الزيادة الأخيرة ارتبط بإعادة ضخ العوائد التراكمية لشهادات انتهت آجالها في أوعية ادخارية جديدة، وهذا النمط عزز من استقرار التدفقات نحو البنوك، وكرس قاعدة المدخرات طويلة الأجل، بما يضمن استمرارية دورة رأس المال داخليا ويوفر للبنوك قدرة أكبر على التخطيط لتلبية الطلب على الائتمان.
3 تخفيضات متتالية للفائدة منذ أبريل، بإجمالي 5.25%، أعادت رسم خريطة السوق، ومع وصول العائد إلى 22% على الإيداع و23% على الإقراض، اضطرت البنوك لإلغاء بعض الشهادات ذات العائد القياسي وإعادة تسعير منتجاتها عند مستويات تراوحت بين 15 و17% للعائد الثابت، والهدف كان واضحا: خفض تكلفة الأموال مع الحفاظ على ثقة المودعين واستقرار قاعدة المدخرات.
عوائد حقيقية إيجابية.. وحفاظ على الجاذبية
رغم التراجع في الأسعار، ما زالت الشهادات تحقق عوائد حقيقية تتفوق على التضخم بنسب تتراوح بين 4 و5%، وهذه الإيجابية تمثل عنصر الطمأنينة الأهم للمدخرين، وتفسر استمرار التدفقات الضخمة، كما أن التوسع في طرح شهادات متغيرة العائد ومتدرجة العائد يعكس محاولة البنوك التوازن بين إدارة التكلفة داخليا ومواكبة توقعات العملاء خارجيا.

الادخار المصرفي في مصر لا يرتبط بمستوى الفائدة
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة، توسعت البنوك في تقديم شهادات ثلاثية متناقصة العائد تبدأ بنسب مرتفعة ثم تنخفض تدريجيا، إلى جانب شهادات مرتبطة مباشرة بحركة الفائدة، هذا بالإضافة إلى تنوع دوريات صرف العوائد بين الشهرية والربع سنوية والسنوية، وهذا منح العملاء مرونة أوسع، ورسّخ قدرة القطاع المصرفي على امتصاص المخاطر الاقتصادية عبر أدوات متجددة.
تكشف التجربة الأخيرة أن الادخار المصرفي في مصر لا يرتبط فقط بمستوى الفائدة، بل يستند إلى مزيج من الثقة المؤسسية، وغياب البدائل الاستثمارية ذات المخاطر المنخفضة، فضلا عن إدراك الأفراد لأهمية العائد الحقيقي في مواجهة التضخم.
ومع استمرار السياسة النقدية في مسارها التيسيري، يظل التحدي الأكبر أمام البنوك هو الموازنة بين خفض تكلفة الأموال وتعزيز جاذبية المدخرات، بما يحافظ على دورة رأس المال الداخلية ويمهد الطريق لنمو الائتمان في المدى القريب.
التعليقات